فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{إِذَا السَّمَاءُ انفطرت (1)}
التفسير:
إنه سبحانه يذكر طرفاً آخر من أشراط الساعة في هذه السورة. فأوّلها انفطار السماء أي انشقاقها كقوله في الفرقان {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] وكما يجيء في قوله: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] وفيه كذا في قوله: {وإذا الكواكب انتثرت} إبطال قول من زعم أن الفلكيات لا تنخرق. أما الدليل المعقول الذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وهو أن الأجسام متماثلة في الجسمية فيصح على كل واحد منها ما يصح على الباقي لكن السفليات يصح عليها الانخراق فيصح على العلويات أيضاً فغير مفيد ولا مقنع، لأن الخصم لو سلم الصحة فله أن ينازع في الوقوع لمانع كالصورة الفلكية وغيرها. وأما تفجير البحار فقد فسروها بفتح بعضها إلى بعض حتى تصير البحار كلها بحراً واحدًّا وذلك التزلزل الأرض وتصدعها حتى يرتفع الحاجز الذي بين البحار الشرقية وبين البحار الغربية. وقد فسره في الكشاف بزوال البرزخ بين العذب والمالح حتى يختلطا وهو تصوّر فاسد نشأ من مجرّد سماع لفظ ارتفاع البرزخ.
وعن الحسن: إن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية وهو معنى التسجير عنده كما مر في السورة المتقدّمة.
قال جار الله: بعثر وبحثر بمعنى وهما من البعث والبحث زيد فيهما الراء والمعنى بحثت القبور وأخرج موتاها. ولأهل التأويل أن يحملوا بعثرة القبور على كشف الأسرار والأحوال الخفية، ومعنى التقديم والتأخير قد سبق في القيامة في قوله: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخر} [القيامة: 13] والمراد جميع أعمالها وإنما يحصل بها العلم الإجمالي عند الموت أو في أوائل أشراطه ثم يزيد شيئاً فشيئاً إلى حين مطالعة صحيفة العمل. ولما أخبر عن وقوع الساعة والحشر بين ما يدل عليه عقلاً فقال: {يا أيها الإنسان} هو الكافر المنكر للبعث عند طائفة لقوله بعد ذلك {كلا بل تكذبون} وقد يخص ببعضهم فروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.
وعن الكلبي ومقاتل في الأشد بن كلدة. وذلك أنه ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى وأنزل الآية. والأقرب أنها تتناول جميع العصاة وخصوص السبب لا يقدح في العموم، وههنا سؤال وهو أنه تعالى وصف نفسه في هذا المقام بالكرم وهذا الوصف يقتضي الاغترار به حتى قالت العقلاء: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. وسمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الخدم فقال: أما يهاب هؤلاء الغلمان. فقال: إنما يهابنا أعداؤنا.
وعن علي رضي الله عنه أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه فنظر فإذا هو بالباب فقال لم لم تجبني؟ فقال: لثقتي بتحملك وأمني من عقوبتك فاستحسن جوابه فأعتقه. (قال مؤلف الكتاب): إني في عنفوان الشباب رأيت فيما يرى النائم أن القيامة قد قامت وقد دار في خلدي أن الله تعالى لو خاطبني بقوله: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك} فمادّا أقول؟ ألهمني الله في المنام أن أقول: غرني كرمك يا رب. ثم إني وجدت هذا المعنى قد ذكر في بعض التفاسير.
وعن الفضيل بن عياض أنه قال: أقول في الجواب غرتني ستورك المرخاة. وإذا ثبت أن الكرم يقتضي أن يغتر بصاحبه فكيف وقع الإنكار عليه؟ والجواب من وجهين:
الأول: أن كل كريم فهو حكيم لأن إيصال النعم إلى الغير لو لم يكن مبنيا علي داعية الحكمة كان تبذيراً لا كرماً فكأنه سبحانه قال: كيف اغتررت بكرمي وكرمي حقيقي صادر عن الحكمة وهي تقتضي أن لا يهمل وإن أمهل، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين، وأن يعيد الناس لأجل المجازاة حتى يظهر المحسن من المسيء والبر من الفاجر لا يضيع حقوق الناس؟.
والحاصل أن الكرم بالخلق والتسوية وهي انتصاب القامة أو سلامة الأعضاء، وبالتعديل وهو تناسبها أو جعله مستعدّاً لقبول الكمالات لا يقتضي أن لا يعيده إلى الحالة الأولى لأجل المجازاة، بل يجب أن يعيده تتميماً للنعمة وإظهاراً للحكمة. الثاني أن كرمه السابق بالخلق وغيره لا يوجب كرماً لاحقاً بالعفو والغفران لجميع المعاصي لأن غاية الكرم هو أن يبتدئ بالنعم من غير عوض ولا غرض، أما الكريم إذا أمر المنعم عليه بشيء وإنه يتلقاه بالعصيان فليس من الكرم أن يغمض عن جرمه بل قد يعدّ ذلك ضعفاً وذلة ولاسيما إذا كان المأمور به هو معرفة المنعم ولهذا روي عن عمر مرفوعاً «غره جهله».
وعن الحسن: غره والله شيطانه الخبيث حتى طمع في الكرم اللاحق لأجل الكرم السابق. خصوصاً إذا لم يكن ممن حصل له معرفة ربه في الدنيا.
قال النحويون: {ما} في {ما شاء} مزيدة قلت: وذلك بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فهي مفيدة للتأكيد أي في كل صورة من الصور شاء كقوله: {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} [آل عمران: 6] وإنما لم يقل (ففي أي صورة) بالفاء العاطفة على نسق ما تقدّمها لأنها كالبيان بعد ذلك. والجارّ متعلق بركب أي ركبك في أي صورة اقتضتها حكمته أو بمحذوف أي حاصلاً في بعض الصور المرادة. وجوّز جار الله أن يتعلق بـ: {عدلك} ويكون في أيّ معنى التعجب أي فعدلك في صورة عجيبة ثم قال ما شاء أي ركبك ما شاء من التركيب.
قال الحسن: منهم من صوّره ليستخلصه له، ومنهم من صوّره ليشغله بغيره.
قلت: الأوّلون مظاهر اللطف والجمال، والآخرون مظاهر القهر والجلال. ثم زجرهم عن الاغترار بقوله: {كلا} وهي حرف وضع في اللغة لنفي ما تقدم وتحقيق غيره أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور، ولئن فرض فالله كريم غفار للذنوب، ولئن قدّر أنه معاقب فلعله غير عالم بالجزئيات فكيف يحاسب فنبههم الله تعالى على خطئهم بأن تكذيبهم بالجزاء إنما وقع في حال تسليط الحفظة عليهم، وهذا التكذيب أيضاً من جملة ما يكتبونه. أو نقول: لما ردعهم عن الطمع الفارغ والأمل المنكر أضرب عنه إلى ما هو شر منه وهو إنكار الجزاء أصلاً. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم إشارة إلى أن أمر الجزاء عند الله تعالى من عظائم الأمور والاشغال.
قال بعضهم: من لم يزجره عن المعاصي مراقبة الله إياه كيف يردّه عنها الكرام الكاتبون؟
قلت: لا ريب أن الأول أصل والثاني فرع إلا أن المكلف لإلفه بالمحسوسات يزجره ما هو أقرب إلى عالم الحس أكثر ما يزجره ما هو أقرب إلى عالم الأرواح ولهذا تقع الزواجر والروادع في المدينة الفاضلة. ثم ذكر فائدة كتابة الحفظة وغايتها فقال: {إن الأبرار} إلى آخره.
يحكى أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فقال لأبي حازم: كيف القدوم على الله غداً؟ فقال: أما المحسن فالكغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.
قال: فبكى ثم قال: ليت شعري مالنا عند الله فقال أبو حازم: اعرض عملك على كتاب الله قال: في أي مكان؟ قال في قوله: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} قال جعفر الصادق: النعيم المعرفة والمشاهدة، والجحيم ظلمات الشهوات.
وقال آخرون: النعيم القناعة والتوكل، والجحيم الطمع والحرص، وقال العارفون: النعيم الاشتغال بالله والجحيم الاشتغال بما سواه. وقوله: {وما هم عنها بغائبين} كقوله وما هم بخارجين منها أو أراد ما كانوا يغيبون عنها قبل ذلك أي في قبورهم فيكون قد بين حال البرزخ كما شرح حال المبدأ والمنتهى. ثم نبه بقوله: {وما أدراك} مرتين أن يوم الدين مما لا يكتنه كنه شدته، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يعرفه إلا بالوحي.
وقيل: للكافر. ثم وصفه مجملاً بقوله: {يوم لا تملك} إلى آخره أي لا ملك ولا تصرف في ذلك بظاهر وحقيقة الإله تعالى. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الانفطار:
مكية.
وهي تسع عشرة آية.
وثمانون كلمة وثلاثمائة.
وسبعة وعشرون حرفاً.
{بسم الله} الذي خلق كل شيء فقدّره تقديراً {الرحمن} الذي دبر الكائنات تدبيراً {الرحيم} الذي أرسل رسوله للخلق نذيراً.
{إذا السماء} أي: على شدّة إحكامها واتساقها وارتفاعها {انفطرت} أي: انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} (الفرقان).
{وإذا الكواكب} أي: النجوم الصغار والكبار كلها الغراء الزاهرة المتوقدة توقد النار المرصعة ترصيع المسامير {انتثرت} أي: تساقطت متفرّقة؛ لأنّ عند انتقاض تركيب السماء تنتثر النجوم على الأرض.
{وإذا البحار} المتفرّقة في الأرض وهي ضابطة لها أتم ضبط لنفع العباد على كثرتها {فجرت} أي: فتح بعضها في بعض فاختلط العذب بالملح وزال البرزخ الذي بينها فصارت البحار بحراً واحدًّا وروي أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية. وهو معنى التسجير عند الحسن في قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت} (التكوير).
وقال هنا: {فجرت} بغت.
{وإذا القبور} أي: مع ذلك كله {بعثرت} أي: قلبت، يقال: بعثره وبحثره بالعين والحاء.
قال الزمخشري: وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما، أي: فهما بمعنى، والمعنى: قلب أعلاها أسفلها وقلب باطنها ظاهرها، وخرج ما فيها من الموتى أحياء، وقيل: التبعثر إخراج ما في بطنها من الذهب والفضة، ثم تخرج الموتى بعد ذلك، وجواب إذا أوّل السورة وما عطف عليه.
{علمت نفس} أي: كل نفس وقت هذه المذكورات، وهو يوم القيامة {ما قدّمت} من عمل {وأخرت} أي: جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما..
فإن قيل: أي وقت من القيامة يحصل هذا العلم.
قال الرازي: أمّا العلم الإجمالي فيحصل في أوّل زمان الحشر؛ لأنّ المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أوّل الأمر، وأمّا العلم التفصيلي، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة.
وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان} أي: البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه خطاب لمنكري البعث.
وروى عطاء عن ابن عباس: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في أبي الشريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى في أوّل أمره.
وقيل: تتناول جميع العصاة لأنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
{ما غرّك بربك} أي: ما خدعك وسوّل لك الباطل حتى تركت ما أوجب عليك المحسن إليك وأتيت بالمحرّمات {الكريم} أي: الذي له الكمال كله المقتضي لأن لا يهمل الظالم ولا يسوى بين المحسن والمسيء، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة، فإن حملناه على الكافر وهو ظاهر الآية فالمعنى: ما الذي دعاك إلى الكفر وإنكار الحشر والنشر.
فإن قيل: كونه كريماً يقتضي أن يغترّ الإنسان بكرمه لأنه جواد مطلق، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع وعصيان المذنب، وهذا يوجب الاغترار كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه صيح بغلام له مرّات فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب فقال له: لم لا تجيبني؟ فقال: لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه.
وقالوا أيضاً: من كرم ساء أدب غلمانه. وإذا ثبت أنّ كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله هاهنا مانعاً من الاغترار؟
أجيب: بأنّ حق الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى عليه حيث خلقه حياً، وتفضل عليه فهو من كرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدّة التوبة، وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس للجزاء فالحاصل أنّ تأخير العقوبة لأجل الكرم، وذلك لا يقتضي الاغترار بهذا التفضيل فإنه منكر خارج عن حدّ الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها: «غرّه جهله».
وقال عمر: غرّه حمقه وجهله.
وقال الحسن: غرّه والله شيطانه الخبيث، أي: زين له المعاصي.
وقال له: افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً، وهو متفضل عليك آخراً حتى ورّطه.
وقيل للفضيل بن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: {ما غرّك بربك الكريم} ماذا تقول له؟قال: أقول غرّني ستورك المرخاة، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر وليس باعتذار كما يظنه الطماع، ويظنّ به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم أنما قال: {بربك الكريم} دون سائر صفاته ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّني كرم الكريم.
وقال مقاتل: غرّه عفو الله حيث لم يعاقبه أوّل مرّة.
وقال السدي: غرّه رفق الله تعالى به.
وقال قتادة: سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان.
وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة فيقول: ما غرّك بي يا ابن آدم؟ ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟
{الذي خلقك} أي: أوجدك من العدم مهيأ بتقدير الأعضاء {فسوّاك} عقب تلك الأطوار بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل {فعدلك} أي: جعل كل شيء من ذلك سليماً مودعاً فيه قوّة المنافع التي خلقه الله تعالى لها.
تنبيه:
قوله تعالى: {الذي} يحتمل الإتباع على البدل والبيان والنعت والقطع إلى الرفع والنصب. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقيق ذلك الكرم فقوله سبحانه: {الذي خلقك} أي: بعد أن لم تكن لا شك أنه كرم لأنه وجود، والوجود خير من العدم، والحياة خير من الموت. كما قال تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} (البقرة).
وقوله تعالى: {فسوّاك} أي: جعلك مستوي الخلقة سالم الأعضاء غاية في الكرم كما قال تعالى: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً} (الكهف).
أي: معتدل الخلق والأعضاء.
وقال ذو النون المصري: أي: سخر لك المكوّنات أجمع، وما جعلك مسخراً لشيء منها، ثم إنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة ومدّك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد، بمعنى جعلك متناسب الأطراف فلم يجعل إحدى يديك أو رجليك أطول، ولا إحدى عينيك أوسع فهو من التعديل. وهو كقوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوّي بنانه} (القيامة).
وقال عطاء عن ابن عباس: جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية.
وقال أبو على الفارسي: عدلك خلقك في أحسن تقويم مستويا علي جميع الحيوان والنبات، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم. وأمّا قراءة التخفيف فتحتمل هذا أي: عدل بعض أعضائك ببعض ويحتمل أن يكون من العدول، أي: صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال. ونقل القفال عن بعضهم: أنهما لغتان بمعنى واحد.
{في أيّ صورة} أي: من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان وغيره، وما في قوله تعالى: {ما شاء} مزيدة، وفي أيّ متعلق بركب في قوله تعالى: {ركبك} أي: ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه..
فإن قيل: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟
أجيب: بأنها بيان لعدلك ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي: ركبك حاصلاً في بعض الصور، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أي معنى التعجب، أي: فعدلك في صورة عجيبة: ثم قال: {ما شاء ركبك} من التراكيب يعني: تركيباً حسناً.
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى والتعلق به، وهو موجب الشكر والطاعة إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. وقوله تعالى: {بل تكذبون} أي: يا كفار مكة {بالدين} إضراب إلى ما هو السبب الأصلي في اغترارهم والمراد بالدين الجزاء على الأعمال والإسلام.
{وإنّ} أي: والحال أنّ {عليكم} أي: ممن أقمناهم من جندنا من الملائكة {لحافظين} أي: على أعمالكم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير.
{كراماً} أي: على الله تعالى: {كاتبين} أي: لهذه الأعمال في الصحف كما تكتب الشهود منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التحرير.
تنبيه:
هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلا أنّ الأمّة أجمعت على عموم هذا الخطاب في حق المكلفين، وقوله تعالى: {حافظين} جمع يحتمل أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم غير الموكل بالآخر، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة، كما قيل: اثنان بالليل واثنان بالنهار، أو كما قيل: إنهم خمسة.
واختلفوا في الكفار هل عليهم حفظة. فقيل: لا لأنّ أمرهم ظاهر وعملهم واحد، قال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن).
وقيل: عليهم حفظة وهو ظاهر قوله تعالى: {بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين} وقوله تعالى: {وأمّا من أوتي كتابه بشماله} (الحاقة).
وقوله تعالى: {وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره} (الانشقاق).
فأخبر أنّ لهم كتاباً وأنّ عليهم حفظة.
فإن قيل فأي شيء يكتب الذي عن يمينه ولا حسنة له؟
أجيب: بأنّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون صاحبه شاهداً على ذلك وإن لم يكتب. وفي هذه الآية دلالة على أنّ الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم لوصف الملائكة بكونهم حافظين كراماً كاتبين.
{يعلمون} أي: على التجدد والاستمرار {ما تفعلون} فدل على أنهم يكونون عالمين بها حتى إنهم يكتبونها، فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة، وفي تعظيم الكتبة تعظيم لأمر الجزاء، فإنه عند الله من جلائل الأمور، ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه وفيه إنذار وتهويل للعصاة، ولطف بالمؤمنين.
وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدها من آية على الغافلين.
ولما وصف تعالى الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين، وقسمهم قسمين، وبدأ بقسم أهل السعادة.
فقال تعالى: {إنّ الأبرار} أي: المؤمنين الصادقين في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه {لفي نعيم} أي: محيط بهم أبد الآبدين، وهو نعيم الجنة الذي لا نهاية له.
ثم ذكر قسم أهل الشقاوة بقوله تعالى: {وإنّ الفجار} الذي من شأنهم الخروج عما ينبغي الاستقرار فيه من رضا الله تعالى إلى سخطه، وهم الكفار {لفي جحيم} أي: نار محرقة تتوقد غاية التوقد فهم فيها أبد الآبدين.
{يصلونها} أي: يدخلونها ويقاسون حرّها {يوم الدين} أي: يوم الجزاء وهو يوم القيامة.
{وما هم عنها} أي: الجحيم {بغائبين} أي: مخرجين، ويجوز أن يراد يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك في قبورهم.
وقيل: أخبر الله تعالى في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات حالة الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحالة الآخرة التي يجازى فيها، وحالة البرزخ وهو قوله تعالى: {وما هم عنها بغائبين}.
وروي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني: ليت شعري ما لنا عند الله، قال: اعرض عملك على كتاب الله تعالى، فإنك تعلم ما لك عند الله تعالى، قال: فأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال: عند قوله تعالى: {إنّ الأبرار لفي نعيم} الآية.
قال سليمان: فأين رحمة الله تعالى؟ قال: قريب من المحسنين.
ثم عظم سبحانه وتعالى ذلك اليوم فقال: {وما أدراك} أي: وما أعلمك وإن اجتهدت في تطلب الدراية به {ما يوم الدين} أي: أيّ شيء هو في طوله وهوله وفظاعته وزلزاله.
ثم كرره تعجباً لشأنه فقال تعالى: {ثم ما أدراك} أي: كذلك {ما يوم الدين} أي: إنّ يوم الدين الذي بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة، وكيفما تصوّرته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه. والتكرير لزيادة التهويل.
ثم أجمل تعالى القول في وصفه فقال سبحانه: {يوم لا تملك} أي: بوجه من الوجوه في وقت ما {نفس} أي: أيّ نفس كانت {لنفس شيئاً} أي: قل أوجل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع {يوم} على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو يوم. وجوّز الزمخشري أن يكون بدلاً مما قبله، يعني: {يوم الدين}، والباقون بالفتح بإضمار أعني أو اذكر.
{والأمر} أي: كله {يومئذ} أي: إذ كان البعث للجزاء {لله} أي: ملك الملوك لا أمر لغيره فيه فلا يملك الله تعالى في ذلك اليوم أحدًّا شيئاً كما ملكهم في الدنيا.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة». حديث موضوع. اهـ.